"كل الأشياء الجميلة التي تفعلها للغير,ستعود لك ذات حاجة"
(قصة)
دائماً ما تذكرني "أمي" بهذا,أو دائما ما "كانت" تفعل,أو هي اخر كلمة سمعتها منها قبل أن ارحل خارج قريتنا,وترحل روحها هي ايضاً..للسماء!
كنا في أوائل"شباط" حينها ,المطر لم يتوقف منذ الأمس,وامنية أن أرى الشمس تخترق زجاج نافذتنا المكسورة ,للشمس,ومنكسرة أمام قوة قطرات المطر
رؤية "أمي" وهي تضع الحطب في الموقد لتقتل البرد بالنار,يقتل داخلي الفرح بالدفء,وكون منزلنا صغير,فإن الدفء يجتاح زواياه سريعاً
كلمة "المنزل " تشعرني بالإطراء كلما تأملت هذه الغرفة الضعيفة أمام الماء,والضيقة أمام هذا الفضاء
لم انسَ تلك الليلة,ليس لأنها باردة جداً,بل لأن المرض اشتد بأمي صباح ذلك اليوم.
الذكرى وحدها تجعلني اتوقف عن التفكير بواقعي,محاكاة شعور قاسٍ مررت به في الماضي يتعبك,تفتح عينيك الآن,حزينٌ انك عشته, وفرحٌ أنك عشت بعده !
جاء الربيع متأخراً تلك السنة,كنتُ خائفاً ان ينسانا ولا ياتِ,عند الشروق اخذتني "أمي" إلى سوق القرية,ليس إلا بضع محلات صغيرة تبيع الحوائج الضرورية للعيش فقط,حبوب, وماء,وملابس
الطريق ضيق وأثآر اقدام المارين محفورة على التراب,وحولي اشجار خضراء قصيرة,لم أكن أعرف اسماءها,ومازلت..!
ممسك بيد أمي,وممسكة هي بملابس خاطتها بخيط من الأمنيات أن تُشترى منها,متعبةٌ,مبتسمة وتُسرع في الخطى وكأنها موقنة بنجاح "الصفقة"
التفتت إلي,تراقبني بعينيها
-شادي:
إذا وصلنا للسوق ابقَ بجانبي,لم أعد قادرة على البحث عنك في الأزقة
قالتها وهي تربت على رأسي,نظرت لها وابتسمت كموافقة لأوامرها
صوب محل الملابس انطلقنا,تتلفت "أمي" بحثاً عمن تعرفه ليكون توصية لها عند صاحب المحل
اتأمل في السوق:باعة ومتسوقين,من يصرخ ويطوف,وعيون شاخصة,ووجوه غارقة بعرقها,واصوات عالية ممتزجة مع بعضها لتؤلف معزوفة نشاز
اراقب الوجوه البعض منهم اعرفه,والبعض جاء من قرى قريبة
وانا بالخارج اسمع حوار أمي بداخل محل الملابس :
-تعبت لكي اجلب القماش,وتعبت وانا اخيط هذه الملابس,وابيعها بهذا الثمن ؟
-اخبرتك يا سيدتي,لم يعد أحد يشتري الملابس هذه,لقد اصبحت قديمة,وسأشتريها منك فقط لرأفتي بك وبأبنك
-لم أطلب منكَ الإحسان إلي,ولا لشفقتك علي و ولدي,سأبيع الملابس بنفسي,ولتغرب عني
لم التفت لأرى وجه أمي بعد خيبة أملها,لكن صوت إغلاق باب المحل بقوة جعلني أفعل
عينيها شاكية الخذلان,و قلة الحيلة,ولكي لا أسال ماذا ستفعل الآن ولتطرد اشباح التشاؤم عني سألتني :
-شادي :لون الدراجة التي تريد,أحمر ام أزرق ؟ لقد نسيت
صمت برهة واجبت :
-ازرق كان يا امي أم احمر لايهم
لم انظر لعينيها حين أجبت لكي لا اتذكر وجهها وبه خيبة أمل ,وقلتها وبداخلي لم أعد دراجة,اريد لأمي أن تبتسم فقط
كم تصغرالأحلام الكبيرة عند خيبة الأمل,وكم هو قاسٍ الخذلان عندما تراك ممسكاً بالحلم,وفجأة يختفي...!
نتجول في السوق بحثاً عن زبون يشتري ملابسنا التي فقدت هالة الآمال التي كانت حولها
لم أعد اسمع ضجيج الباعة,تلاشت كل الأصوات المزعجة,لا شيء إلا سوى صوت الدعاء
-بني,لنعد للمنزل الآن,وغداً سنعود لبيعها عند شخص أعرفه,واعدك أني لن اخذلك
-لا عليكِ يا أمي,لست بتلك الحاجة الماسة لها
مشينا نفس الطريق الذي جئنا منه,ولكن بعدد أقل من الأمنيات,وبخطىً ابطئ
صادفنا في الطريق طفل صغير,عندها كنت اراه اصغر مني بقليل,بادرنا بالتحية,ويتمتم بصوت خافت :
-انا وأختي وحيدين,ولا احد يهتم بنا سوى من بقلبه رأفة بنا,ويعطينا المال لنعيش يوماً آخر
نظرت أمي إلي مشفقة,وكأني انا الطفل المسكين
-أعطيه يا امي الملابس,لعل بثمنها يجد طعاماً
مستغربة استطردت قائلة :
-ألا تريد الدراجة يا شادي؟
-هو اشد حاجةً مني يا امي,والدراجة ستأتِ عندما نجد المال
ابتسمت أمي وكأن هذا ما كانت تريد سماعه,أعطت للطفل قطع الملابس,واخبرته بأن يذهب لذلك المحل وسيعطيه ثمناً لها
-شكراً سيدتي,شكراً شادي,سأرد لكما الجميل ذات يوم
ذهب الطفل (الياس) بعد أن سألته عن اسمه,كوني اريد التقرب منه ليلعب معي
::
اتحسس وجهي وانا اتذكر كل ذلك,التجاعيد ملأت وجهي,ولم أعد طفلاً!
أمي:

تعليقات
إرسال تعليق